ابتزاز نيرة- قصة مأساوية تكشف تسلط النفوذ وجرائم السوشيال ميديا

المؤلف: سعيد السني11.13.2025
ابتزاز نيرة- قصة مأساوية تكشف تسلط النفوذ وجرائم السوشيال ميديا

استحوذت قضية الطالبة الراحلة بجامعة العريش، سواء قُتلت بوحشية أو أقدمت على الانتحار، على اهتمام بالغ من الرأي العام المصري ووسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية. فقد كشفت التحقيقات أن وراء هذا الحادث المأساوي سلسلة من التجاوزات الخطيرة، بدءًا من استغلال النفوذ والسلطة، وصولًا إلى الابتزاز الإلكتروني الممنهج، والإهانة المتعمدة، والإذلال المتواصل، والقهر الشديد الذي مورس ضدها بضراوة من قبل زملائها، الذين استغلوا نفوذهم في الجامعة، وانقضوا عليها معنويًا ونفسيًا بكل قسوة.

تدور فصول قصة الطالبة نيرة صلاح الزغبي، البالغة من العمر 19 عامًا، والتي كانت تدرس في الفرقة الأولى بكلية الطب البيطري بالعريش، حول حادثة وقعت في 24 فبراير/ شباط الماضي، حين تم نقلها بشكل عاجل من السكن الجامعي إلى مستشفى العريش وهي في حالة صحية حرجة. وما لبثت أن فارقت الحياة. وذكر التقرير الطبي الصادر عن المستشفى أن سبب الوفاة يعود إلى هبوط حاد ومفاجئ في الدورة الدموية، مع وجود ادعاء بأنها تناولت مادة سامة غير معروفة.

اعتذار مُهين

كانت نيرة، الطالبة بجامعة العريش، قد تلقت دعمًا كبيرًا من أسرتها، التي ساندتها بكل ما أوتيت من قوة في رحلة كفاحها واجتهادها لتحقيق التفوق في شهادة الثانوية العامة من مسقط رأسها بقرية ميت طريف، التابعة لمركز دكرنس بمحافظة الدقهلية (شمال شرق القاهرة). وقد أهّلها مجموعها المرتفع للالتحاق بكلية الطب البيطري في العريش، وهو الحلم الذي لطالما راودها.

قبل أن تتم عامها الأول في الكلية بأسبوعين فقط، سارعت أسرتها المفجوعة إلى العريش، بعد تلقيهم اتصالًا هاتفيًا يُفيد بنقل ابنتهم إلى المستشفى في حالة خطيرة. وما إن وصلوا حتى صعقوا بنبأ وفاتها المأساوي. تسلمت الأسرة جثمان نيرة، ونقلته إلى بلدتها، حيث ووري الثرى في مقابر العائلة.

كادت هذه الواقعة المؤلمة أن تمر مرور الكرام، لولا الانتشار الواسع النطاق لآلاف التدوينات الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كشفت أن الوفاة لم تكن طبيعية على الإطلاق، وطالبت بمحاسبة جميع المتسببين في وفاتها، سواء كان ذلك قتلًا عمدًا أو انتحارًا نتيجة للضغوط. وتم تداول صور لـ"بوستات" تتضمن اعتذارًا مذلًا من الفتاة لزميلتها شروق كمال، ابنة أحد ضباط الشرطة (الذي تم إيقافه عن العمل من قبل وزارة الداخلية على خلفية القضية)، وزميل آخر يدعى طه إبراهيم، وهو صديق مقرب لشروق. وقد جاء هذا الاعتذار المهين والمؤلم للنفس على خلفية تهديدات صريحة من شروق وطه، زعما فيها امتلاكهما صورًا فاضحة ومحرجة لنيرة، وهدّدا بنشرها على الملأ إذا لم تمتثل نيرة وتتقدم بالاعتذار العلني.

أقراص الغلّة السامة

باشرت "النيابة العامة" تحقيقات موسعة وشاملة في القضية، وأصدرت قرارًا باستخراج جثمان "الطالبة نيّرة" وإحالته إلى مصلحة الطب الشرعي لتشريحه وفحصه بدقة، وذلك بهدف تحديد سبب الوفاة بشكل قاطع ونهائي، سواء كان انتحارًا ناجمًا عن يأس وإحباط، أم جريمة قتل مكتملة الأركان. وقررت النيابة حبس المتهمين الرئيسيين في القضية، شروق وطه، على ذمة التحقيقات الجارية، ووجهت إليهما تهمتين خطيرتين، هما: جناية إفشاء أمور متعلقة بالحياة الخاصة للضحية، كتابةً، مصحوبة بطلب واضح (الاعتذار القسري)، وجنحة الاعتداء السافر على حرمة الحياة الخاصة لنيرة.

وكشف "بيان النيابة العامة" النقاب عن أن طالبة جامعة العريش، كانت تعاني من ضغوط نفسية هائلة ومتزايدة، نتيجة للتهديدات المستمرة التي تلقتها من المتهمة الأولى (شروق)، والتي هدّدت بنشر محادثات خاصة ومحرجة، قامت باختلاسها خلسة من هاتف نيرة، وأرسلتها إلى زميلها المتهم الثاني (طه)، الذي عمد إلى كتابة منشور على جروب "واتساب" يزعم فيه امتلاكه مراسلات وصورًا خاصة لـ "إحدى الطالبات"، مهددًا بنشرها وتوزيعها على نطاق واسع في الوقت الذي يختاره الطلاب على "الجروب"، ما لم تعتذر نيرة عما بدر منها من إساءة في حق شروق.

وأفاد "البيان" – استنادًا إلى شهادات الشهود – بأن الطالبة (نيرة)، قامت بشراء ثلاثة أقراص سامة من نوع (حبة الغلّة)، لكن البيان لم يؤكد بشكل قاطع ما إذا كانت نيرة قد أقدمت بالفعل على تناول هذه الحبوب أم لا. كما لم يرجح البيان فرضية القتل المتعمد، ولكنه نوّه في الوقت ذاته إلى ضرورة انتظار التقرير النهائي للطبيب الشرعي، الذي سيحدد بشكل قاطع الأسباب الحقيقية للوفاة.

"حبة الغلة" هي عبارة عن قرص صغير الحجم يتكون من غاز الفوسفين المضغوط بتركيز عالٍ، وهو مادة سامة للغاية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه "الحبة" يتم تداولها على نطاق واسع في الأسواق المصرية دون أي قيود تُذكر، ويستخدمها المزارعون في الأساس لحماية محاصيل الغلال من التسوس والحشرات الضارة. وقد شاع استخدامها (الحبة) خلال السنوات الأخيرة كوسيلة للانتحار نظرًا لسهولة الحصول عليها ورخص ثمنها، بالإضافة إلى سرعة مفعولها القاتل.

جريمة "الابتزاز الإلكتروني"

"الابتزاز الإلكتروني" هو جريمة مستحدثة وشائعة في السنوات الأخيرة، وتتمثل في قيام الجاني بتهديد الضحية المستهدفة (سواء كان رجلًا أو سيدة) بنشر مراسلات أو مقاطع فيديو خاصة وحساسة بحوزته، حصل عليها خلسة أو سرقة من هاتف الضحية أو تطبيق من تطبيقات التواصل الاجتماعي، وذلك في حال لم يخضع الضحية لمطالبه ورغباته الدنيئة.

تجدر الإشارة إلى أن القانون المصري لا يتضمن تعريفًا صريحًا ومباشرًا لجريمة "الابتزاز الإلكتروني". ولكنه يتعامل مع هذه الجريمة من خلال نصوص قانونية أخرى، مثل جريمة انتهاك حرمة الحياة الخاصة، وتهديد الضحية بتهديد مقترن بمطلب غير مشروع، مثل ممارسة الجنس أو هتك العرض، أو دفع مبلغ مالي باهظ، أو غير ذلك من المطالب غير القانونية.

وتتراوح عقوبات هذه الجريمة بين السجن لمدة ستة أشهر وغرامة مالية أو إحدى هاتين العقوبتين، وقد تصل إلى السجن لمدة سبع سنوات في حال اقتران الابتزاز بطلب غير مشروع، أو جريمة ضد النفس أو العرض. وتجدر الإشارة إلى أن هناك خطوط اتصال مباشرة تابعة لمباحث الإنترنت مخصصة لتلقي البلاغات عن هذه الجرائم. إلا أن العديد من المصريين يحجمون عن الإبلاغ عن وقائع الابتزاز، وكذلك التحرش الجنسي، تجنبًا للفضيحة وتداعياتها الاجتماعية الوخيمة.

فتاة الغربية المنتحرة

في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2021، شهدت محافظة الغربية حادثة انتحار مأساوية لفتاة تدعى بسنت خالد، تبلغ من العمر 17 عامًا، والتي أقدمت على تناول "حبة الغلة" السامة، وذلك على خلفية قيام خمسة شبان من بلدتها بممارسة ضغوط نفسية شديدة عليها، وابتزازها بصور مخلة وخادشة للحياء منسوبة إليها، بهدف إجبارها على ممارسة الجنس معهم قسرًا.

وقد تركت الفتاة المنتحرة رسالة أخيرة مؤثرة لأسرتها، أكدت فيها أنها مظلومة وأن الصور المتداولة مفبركة ومصطنعة. وقد تم الحكم على الجناة بالسجن لفترات تتراوح بين 5 و 15 سنة، بتهم الاتجار بالبشر، واستغلال ضعف المجني عليها واستسلامها لتهديداتهم المتواصلة، بقصد استغلالها جنسيًا، والاعتداء على حرمة حياتها الخاصة، والمبادئ والقيم الأسرية، وذلك باستخدام شبكة الإنترنت.

فوقية وغطرسة

إن حادثة قتل أو انتحار نيرة صلاح، طالبة جامعة العريش، تعكس وجود خلل عميق في منظومة التربية الأسرية لدى شريحة معينة من شبابنا، وخاصة أبناء بعض ذوي النفوذ والسلطة أو الثروة الطائلة، الذين يتملّكهم شعور زائف بالتفوق والتميز الطبقي، ومظاهر فارغة من القيمة.

فالآباء قد غرسوا في نفوس أبنائهم قيماً سلبية مثل الفوقية والتعالي والغطرسة والأنانية والتنمّر على "الآخرين" من ضعفاء وفقراء البلاد، الذين لا يمتلكون نفس النفوذ أو الميزات التي يتمتعون بها.

وقد تحول بعض هؤلاء الأبناء – بفعل التربية السيئة – إلى ذئاب مفترسة لا ترحم، على النحو الذي تجسد في سلوكهم المشين مع "القتيلة". ومن زاوية أخرى، فإن القضية تكشف عن وجود انفصام وتباعد كبير في جامعاتنا بين الطلاب والأساتذة. فقد وقعت الجريمة وانتشرت أخبارها على نطاق واسع على جروب الواتساب الخاص بطلاب الفرقة الأولى بكلية الطب البيطري بالعريش، والتي ينتمي إليها كل من الجناة والضحية.

إلا أن إدارة الجامعة وأساتذة الكلية لم يحركوا ساكنًا لوقف هؤلاء الذئاب البشرية عند حُرمات الأخلاق والقيم الجامعية الرفيعة، وتوعية الطلاب بأهمية احترام حدود الخلاف، والحفاظ على خصوصية الغير، وتربيتهم أخلاقيًا لتعويض النقص الذي لم يتعلموه في بيوتهم.

نسأل الله السلامة لمصر من هذا التدهور الأخلاقي المدمر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة